هكذا تكلم زرادشت
قبل أن نبدأ هذا البحث ، حول أشهر كتاب صنفه الفيلسوف الإلماني " فريدريك نيتشه" تحت اسم ( هكذا تكلم زرادشت ) ، رأينا أن نعطي لمحة موجزة عن " زرادشت" ، و أخرى عن المؤلف " نيتشيه" نفسه ، و سوف نأتي على ذكر بعضٍ من أقوال نيتشه و أفكاره و بعضاً من أفكار " زرادشت " و لكي تكون المعرفة بهذا الكتاب أشمل و أدق ، و بعدها نسير في اكتشاف أغوار هذا الكتاب الهام جداً ، و هذا لا يعني بأننا نتبنى ما ورد في الكتاب ، أو نؤمن بأفكار مؤلفه أو ننكرها ، بل إن هذه الدراسة هي دراسة معرفية فقط ، بغض النظر عما بداخل هذا الكتاب من أفكار و آراء ، مقبولة أو مرفوضة .
1-: من هو زرادشت ؟؟.
هو فيلسوف فارسي من الزمن الغابر ، يعتبر أول من أوصل إلينا فكرة التوحيد ، و أول من نادى بالجنة و النار ، و البعث و الحساب ، و أن الشيطان هو أصل الشر في العالم ، و سمى هذا الشيطان باسم "أهرمن " و قال بأن المبدع الواحد هو "أهرمزدا" و أعوان هذا المبدع هم ملائكة النور ، كما أنه أول من أكد على انتصار الحق و الخير على الباطل و الشر آخر الأمر .
من الصعوبة بمكان دراسة حياة " زرادشت " دراسة دقيقة و حقيقية ، بل أن بعض العلماء قد شك أصلاً بوجود " زرادشت " ، غير أن الدراسات الجادة لكتب " الأبستاق " التي تتضمن حياة " زرادشت " و عقائده ، أكدت وجود هذه الشخصية في وقت من الأوقات ، و أثبتت أن " زرادشت " ينتسب إلى الجنس الهندي الأوروبي ، هذا الجنس الذي أنقسم إلى قسمين عظيمين انتشر أحدهما غرباً و استقر في مختلف " أوروبا " ، أما القسم الثاني و هو الجنس الآري ، فقد انقسم إلى قسمين استقر الأول في الهند ، و الآخر في فارس ، و المكان الذي شهد ولادة " زرادشت " غير معروف بالضبط ، و لكن الدلائل تشير بأنه ولد في الجزء الغربي من إيران / ازربيجان / و أنه قام بدعوته في منطقة " بلخ" ، و قيل أن عائلة أمه جاءت من إقليم الري ، و تاريخ ولادته غير ثابت فبعض الكتب اليونانية تذكر أنه ولد في الزمان الموغل بالقدم ، أي منذ ثمانية آلاف سنة ، بينما يذكر غيرهم أن عهده كان قبل عشرين ألف عام قبل الميلاد ، و آخرين قالوا : أنه عاش قبل حرب طروادة بخمسة آلاف عام ، و البعض يقول : أن " زرادشت" كان موجوداً أيام عهد " سميراميس " ملكة " نينوى " ، و قد ذكر في أحد الكتب الفارسية القديمة أن " زرادشت " صاحب هذه الديانة هو سابع من تسمى بهذا الاسم ، و قد ذكر بعض علماء الآثار ، أنهم وجدوا نصاً آشورياً أكد على أن " زرادشت" ولد عام ألف قبل الميلاد ، و بعض الروايات تؤكد على وجود " زرادشت" قبل 272مئتين واثنين و سبعين سنة من وفاة الأسكندر المقدوني ، و وفاة الأسكندر كانت عام 583 ق. م . خمسمائة و ثلاثة و ثمانين قبل الميلاد.
عندما ولد " زرادشت" لم يبكي كالأطفال ، و إنما ضحك بصوت عالٍ ، اهتزت له أركان البيت ، و قد غمر النور بيت والده " بورشاسب " ، و أسمه ورد في " الأبستاق " ( زراتسترا ) و معناه " معذب الجمال " ، و قد ورد أسمه بنحو عشرين صيغة مختلفة ، و أسم أمه " دغدوفا" و ترجع الروايات نسب والده إلى / كيومرت/ آدم في الأساطير الفارسية ، و هو جده الخامس و الأربعين ، و يقال أن " زرادشت " هو أوسط خمسة أبناء ، و أنه تزوج من ثلاث نساء ، و قد رزق من زوجته الأولى ولداً و ثلاث بنات ، و من الثانية ولدين ، و أما الثالثة فلم تنجب .
كان كثير الجدل مع الحكماء و السحرة و علماء الدين في بلاده ، و كم كان يسبب لهم الحرج في جداله معهم في أمور الحياة ،و هم عاجزين عن الرد على أسئلته ، و هكذا اجتمعت له معلومات كثيرة و تجارب عديدة ، تبلورت في الخامسة عشر من عمره عندما أوصله تفكيره العميق و الشامل في أحوال العالم ، و رأى بثاقب بصره أن الحياة ليست نسيجاً مؤلفاً من البهجة و السرور و السعادة ، و إنما هي مزيج من الظلم و الاضطهاد و الفقر و الطمع و الغش و الحسد و الغيرة و الكره .
و ما أن بلغ الثلاثين من عمره ، حتى أتجه إلى جبل و اعتزل الناس فيه معتبراً أن العزلة هي محراب الطبيعة ، و كان قد قضى في الصحراء عدة سنوات ، و وجد في عزلته أن الكون بتفاصيله من نجوم و كواكب و ما تحتوى تلك الكواكب هي مصدر إلهامه ومنها يأخذ أسرار الحياة ، و أخذ يبحث عن جوهر مبدع هذه الشياء و خالقها الواحد ، و مصير الإنسان بعد الموت ، و استطاع أن يصل من خلال ذلك إلى إدراك كنه الله ( أهرمزدا) أي الإله الحكيم ، و الوصول إلى ذروة الحكمة و الصلاح و التقوى ، و شعر أنه رسول هذا الإله ، وأنه على استعداد لتبليغ رسالته لبني البشر ، و رغم أن تعاليم " زرادشت" انتشرت و التف الناس حوله ينهلون منه التعاليم و الإرشادات ، و رغم ذلك لم تستطع تلك الديانة الانتشار و التوسع كثيراً ،بل بقيت محصورة منذ بدايتها وحتى اليوم في كل من إيران و الهند ، و ما تزال تدافع عن نفسها و قناعاتها رغم أن عدد أتباعها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف .
اعتبرت أول سنة من تاريخ الديانة الزرادشتية هي السنة الحادية و الثلاثين من عهد الملك " كثستاسب" ففي اليوم الخامس من شهر / أرتفا حستو / 5 أيار -630ق.م ، هبط على زرادشت الإلهام السماوي .
لقد أقام " زرادشت " مذهباً فلسفياً دينياً لا شك بأن العالم مدين له فهو أول من فلسف الدين ، و فلاسفة اليونان يدينون له و لتعاليمه .
بلغت الديانة الزرادشتية قمة أوجها في عهد الإمبراطورية الأكمينية ، أيام غزو الأسكندر لفارس .
إن ( أهرمزدا هو الإله الأعظم عند زرادشت ، و هو قديم أزلي ، و هو وحده الذي لم يولد و لن يموت ، و هو علة العلل . و هو المصدر الأول لجميع الموجودات ، و هو روح الأرواح ، لا يرى و لا ينظر ، و هو موجود في كل مكان ، و هو يعلم الماضي و الحاضر و المستقبل ، و هو الوحيد العالم بكل شيء ، و يعلم الغيب و ما تضمره النفوس ، و هو القدير على كل شيء ، على الرغم من أعمال الشيطان ضده ، و كل شيء في العالم ملكاً له ، و هو القوة الخفية المعينة لمن لا معين له ، و هو راعي الفقراء و الأغنياء على حد سواء ، و هو خالق الملائكة الأبرار ، و خالق الجنة و النار ، و الكواكب و النجوم ، و هو الذي حرك السموات و رفعها من غير عمد ، و هو المصدر الأبدي لجميع النعم و البركات ، يريد الخير و لا يفكر بالشر ، و هو الرحمن الرحيم ، يعطف على الجميع و يعاملهم بسواسية ، و في نهاية الزمان سيرد عليه كل مخلوقاته ، و هو لا يعذب الخاطئين للأبد ، بل أنه يحزن لرؤية خلقه يتعذبون و لو إلى حين بسبب ما فعلوه في حياتهم .
إن قوانين تنظيم المجتمع التي سنها " زرادشت" تعتبر مثالاً راقياً في مجال حقوق الإنسان ، فقد نهى عن الغزو ، و دعا إلى حياة السلم ، و ترك للناس حرية الاختيار في اعتناق مذهبه أو رفضه ، و دعا إلى مكارم الأخلاق و خاصة في الأسرة ، و اعتبر الزواج جزء هام من الدين ، و كذلك دعا الإنسان إلى فعل الخير دون انتظار الثواب من أحد ، كما دعا إلى عدم دفن الموتى أو حرق جثثهم ، بل إلى وضعهم فوق أبراج مستديرة لكي تأكلها الطيور ، و تبقى العظام لتلقى في الآبار العميقة بعيداً عن التدنيس ..
سقط قتيلاً بيد امرأة طعنته من الخلف ، و هو غارق في عبادته ، مناجياً ربه قائلاً : يا مزدا متى تشرق شمس انتصار الخير على العالم ؟؟!.
بعض من آراء "زرادشت ":
-: الاهتمام بلب دين التوحيد و الابتعاد عن الطقوس و القرابين .
-: أساس الدين ( القلب و العقل ) و الندم أهم قربان يقدمه المؤمن للخالق .
-: السلوك المستقيم و العبادات القائمة على العدل و الورع و الاستقامة هي صفات المؤمن ، و صفات قلبه النية الطيبة ، و الكلام الطيب و الأعمال الطيبة .
-: إن ( أهرمزدا ) إله النور و الحق سوف يقهر " أهرمن إله الشر و الظلام" .
-: أعبد ( أهرمزدا) ، مجد الملائكة ، ألعن الشياطين ، تزوج أقرب قريباتك .
نيتشه:
ينحدر " فريدريك نيتشه"من أسرة عريقة في الارستقراطية ( بولندية الأصل ) ، ولد في مدينة " روكن " الألمانية في 15 تشرين الأول عام 1844 م ، كان صاحب جسم ضعيف ورثه عن والده الذي كان قساً ، حيث كان مصاباً بضعف البصر ، و آلام حادة بالرأس تنتابه على أثرها نوبات عصبية أدت إلى وفاته ، و كان عمر فريدريك وقتها سبعة أعوام ، وقد رأى بأم عينه كيف أصيب والده ،و كيف نقل ، و كيف مات ، و هذا كان له آثر كبير عليه و هو ما أوقد في عقله روح التمرد على القدر ، و وضح ذلك في أغلب مؤلفاته الفلسفية ، أن جسمه الضئيل ، و رأسه الكبير أثار استهزاء زملائه في المدرسة ، و لهذا عاش حياته كلها بعيداً عن الأصدقاء ، و آثر الوحدة ليمضي حياته برفقة الكتاب و الدراسة ، كانت أمه تسعى و تتمنى أن يكمل مسيرة والده و يصبح قساً ، و كانت تعتقد أنه خلق ليؤدي رسالة عظيمة ، درس كل شيء من فلسفة و علوم ، غير أن ضعف بصره كان يمنعه من متابعة القراءة ، و خاصة عندما يشعر بآلام شديدة تجعله يكره الحياة و يتمنى الموت ، فهو لا يستطيع رؤية النهار ، و لا ضوء الشمس ، و لولا الليل الذي يجد فيه صديقه العظيم لكان انتحر مبكراً .
غرق في اللهو و المجون لفترة قصيرة ثم عافها و انفرد بنفسه بعيداً عن الحياة الاجتماعية من جديد ، و من خلال عزلته التي تعمق فيها بالدراسة و الاطلاع على العالم و ما فيه ، و خاصة الدين و أخلاقياته ، توصل لتكوين أفكاره الغريبة و منها قوله : أليس من الجائز أن تكون الأخلاق المزعومة مجرد خدعة أليس هدف الحياة هو السعادة ؟! و ما دمنا قد قبلنا العيش ، فهذا يعني إننا قبلنا الحياة برمتها ، دون تمييز بين حلوها و مرها .
استطاع إقناع نفسه بإمكانية التغلب على مرضه بقوة الإرادة ، لكنه فشل في ذلك ، بل تردت حالته الصحية كثيراً و ازدادت عليه نوبات الصداع الرهيبة ، و قد حذره الطبيب من إمكانية تعرضه للشلل ، فاتجه إلى أكل الخضار ، أملاً أن يشفى أو تخف عليه الآلام ، و كانت صورة والده وهو يسير إلى الموت لا تفارق مخيلته ، و فشله بالحب قاده إلى الحقد و الكراهية و الكفر ، حقد على الناس جميعاً و خاصة على رجال الدين ، و قد قال : " إنني لم أخلق العالم و إلا لكنت فعلت ذلك في صورة أفضل و أكمل" . و قال :" إن جميع الأفكار الخاصة بالخير و الشر لم تأت من الآلهة لأنه لا يوجد آلهة ، و كذلك هي لم تأت من قانون أخلاقي علوي لأنه لا يوجد مثل هذا القانون و إنما هي من صميم عقل الإنسان ؟!
لقد أرتكب " نيتشه" الخطيئة الكبرى و التي لا تغتفر ، و هو الرجل الرقيق في حياته الخاصة ، الذي لم تكن تطاوعه نفسه على قتل حشرة ، فإذا هو يدعو إلى تحطيم كل القيم التي جاء بها الدين ، و يعلن العداء و المصحوب بالسخرية من رجال الدين و أعمالهم ، و قد قال : انظروا إلى المساكن التي بناها هؤلاء الكهنة و أسموها كنائس ، و ما هي إلا كهوف تنبعث منها روائح التعفن ..
كتب كتابه على لسان " زرادشت " بصورة ملحمية من الشعر المنثور ، تمتزج في هذه الملحمة البساطة و الوضوح بالغموض و الإبهام . طبع من هذا الكتاب أربعين نسخة عجز عن بيع أي منها ، فاضطر إلى توزيعها مجاناً ، و ما أن مات نيتشه عام 1900 م و هو في السادسة و الخمسين من عمره ، حتى راج كتابه رواجاً عظيماً و احتسب بين الكتب الخالدة ، و اعتبر أحد أجمل ألوان الفلسفة و الفكر ، و هكذا انتهت حياة هذا الفيلسوف الذي وقف في وجه الآلهة ، لقد حاول إحراجها ، فردت عليه بأن أفقدته عقله ، و حرمته من أعز ما يملك الإنسان .
هل كان نيتشه ملحداً ؟؟ إن الذين قرأو كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قراءة أولية أكدوا ذلك الإلحاد ، أما الذين أعادوا قراءة الكتاب و بتمعن و روية و تدقيق و تمحيص ، فقد قالوا : " إننا لم نر إلحاداً أقرب إلى الإيمان من إلحاد هذا المفكر الجبار الثائر على الدين ، و الذي نادى بموت الآلهة، ثم يراهم متجلين أمامه دائماً ذلك أن نيتشه الذي اعتقد أن الجسد و الروح فانيان ، إلا أنه عاد في بعض الأحيان ليؤكد عودة كل شيء ، و استمرار كل شيء ، أي أنه يتطلع إلى الأبدية ، و أن فلسفته لا ترضخ لفكرة الفناء ، و لا ترى في النهاية إلا العودة للبداية ، و لهذا لا يمكن أن تكون فلسفته جاحدة و ناكرة للخالق و إبداعاته ، إنما يتراءى من بين النصوص التي تضمنت إلحاده ، إنه كان يبحث عن آلهة آخرين ، هم سادة و قادة الديانة المسيحية في ذلك الوقت ، و بهذا كان يحاول دائماً التخلص من سلطة الكنيسة و وصايتها و جبروتها ..
بدأ الكتاب حين بلوغ " زرادشت" الثلاثين من عمره ، وكان قد هجر وطنه ، و اعتزل داخل كهف لمدة عشر سنوات ، تغيرت قناعاته على أثرها ، و اكتسب من المعرفة الشيء الكثير ، وقف أمام الشمس يناجيها قائلاً :" منذ عشر سنوات ما برحت أيها الكوكب العظيم تشرق على كهفي ، لقد كرهت نفسي ، و وجب علي أن أتوارى الآن أسوة بك" . و هجر وقتها عزلته ليعود إنساناً ، و نزل الجبل متجهاً صوب الغابة ، و فيها التقى بشيخ عرفه ، ناداه الشيخ : لقد استيقظت يا "زرادشت "، فماذا أنت فاعل قرب النائمين ؟؟! أجابه " زرادشت " قائلاً : " أنني أحب الناس ، و سأذهب لكي أهديهم ، و أنت ماذا تفعل ؟؟. قال له : لقد حولت حبي إلى الله ، فما الإنسان في نظري إلا كائن ناقص ، و إذا أحببته قتلني ذلك الحب ، ثم افترقا و هما يضحكان كالأطفال ، فلما أنفرد " زرادشت" قال لنفسه: " إنه لأمر مستغرب!.. تابع " زرادشت " سيره ، فلما بلغ أول مدينة في طريقه رأى أهلها يحتشدون ليشهدوا بهلواناً اعتزم القيام ببعض الألعاب ، فوقف " زرادشت" فيهم خطيباً : " أني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق ، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه ، فماذا أعددتم للتفوق ؟؟ لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد في احتقار ، كانت تتمنى الجسد ناحلاً قبيحاً ، جائعاً ، متوهمة أنها تتمكن بذلك من أن تعتق منه ، و من الأرض التي يدب عليها ، إن الإنسان المتفوق هو ذلك اللهب ، و ذلك الجنون ، ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان و الإنسان المتفوق ، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية ". سقط البهلوان و أصيب برضوض قاتلة ، جثا " زرادشت " إلى جانبه و قال البهلوان لزرادشت : ما كنت أجهل أن الشيطان سيوجه خطواتي يوماً إلى الضلال ؟. فرد عليه " زرادشت " قائلاً : و شرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له ، فليس هناك شيطان ، و لا جحيم .. بل أن روحك ستموت بأسرع من جسدك ، فلا تخشى بعد الآن شيئاً ، من أجل هذا سأدفنك بيدي ، و حمله "زرادشت " بعد موته ، و سار به في الظلام خلال الغابات و المستنقعات ، حتى أنهكه التعب فنام إلى جانب شجرة ، و عندما استيقظ كان الضحى ، نظر حوله ملياً و ابتسم قائلاً إنني أطلبهم مبدعين و لا أطلبهم جثثاً و قطعاناً و مؤمنين ، أنظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات ، تعرفون من هو ألد أعدائهم ، إن هو إلا المبدع .
استسلم " زرادشت للنوم يوماً تحت شجرة تين ، فلسعته أفعى في عنقه ، فصرخ متألماً ، ثم قال لها : لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد ، فأجابت في آسى : بل سفرك القريب لأن سمي زعاف قاتل ، فابتسم و قال : هل لزعاف الأفعى أن يقتل تنيناً ، خذي سمك فلست من الغنى بحيث تقدمين لي هدية .. عندها التفت الأفعى حول عنقه و صارت تلعق جراحه .
عاد " زرادشت " إلى الجبال ، إلى عزلته في الكهف ، محتجباً عن الناس من جديد ، فتراءى له يوماً مرور جماعة من الكهنة أمام كهفه ، فقال لإتباعه : إني أتألم مع الكهنة ، لأنهم في نظري سجناء يحملون وشم المنبوذين في العالم ، لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء الموتى ، فسربلوا جثثهم بالسواد ، ثم توجه بالكلام نحو الكهنة فقال : " إنكم تحقدون عليً أيها الكهنة لأني أعلم الناس بأنه ليس هناك معاقب و لا مثيب ، و ليس للفضيلة ما تجزى به، أنكم تحبون فضيلتكم كما تحب الأم طفلها ، فهل سمعتم أن أماً طلبت مكافأة على عطف الأمومة فيها ؟! و من الناس من يرى الفضيلة في الكسل و الرزيلة ، و من الناس من تشدهم شياطينهم إلى الأسفل ، فكلما انحدر أكثر تزايد شوقهم إلى ربهم و هم يصيحون ، إن كل ما هو خارج عن كياني هو الفضيلة " .
إن الخطر الذي يتهدد خيركم و شركم أيها الحكماء يكمن في إرادة القوة نفسها ، إن تولي الحاكم أصعب من الطاعة ، لأن الآمر يحمل أثقال جميع الخاضعين له .
الشرور الثلاثة :
-: الشهوة : و هي للمتقشفين ، فهي بالنسبة لهم سعادة الجنة الرضية ، الشهوة أسم حلو المذاق لكل من عراه الذبول ، لكنها شراب قوي للأسياد .
-: الطموح : هو سوط يلهب أشد القلوب قسوة ، إنه لجام قاسٍ تراض به أشد الشعوب غروراً ، إن الطموح إلى التحكم نظرات تحني هام الرجال فتجعلهم يزحفون زحفاً ، تستعبدهم و تهوي بهم إلى درك أحط من درك الخنزير و الأفعى .
-: الأنانية : و ما الأنانية إلا توكيد للذات يتفجر من الروح ، فيجعل كل ما حولها يستمد القوة منها ، و يعكس خيالها كالمرآة ، إن الرجل الموغل في صبره ، المتحمل لكل شيء ، و القانع بكل شيء ،شيمه تلك شيم المستعبد المأجور ، و أني أقول لكم : تعلموا الأنانية الصحيحة السليمة لتتمكنوا من احتمال ذاتكم ، فلا تضلكم أنانيتكم ، ما أقل من يعرفون الصدق و الإخلاص ، أكثر الناس تمويهاً هم المشفقون لأنهم لا ينطقون أبداً بالحق ( لا تسرق ، لا تقتل ) كلمات كانت مقدسة في غابر الزمان ولكن هل وجد في الدنيا لصوص و قتله اعتى ممن استفزتهم هذه الكلمات المقدسة ، أليست السرقة و القتل من طبيعة الحياة نفسها ؟ و هل كان تقديس هذه الوصايا إلا قتلاً لحقيقة الحياة ، إن شرفكم كامن في إرادتكم .
إن من يتسلقون معي نحو القمم العليا ، يتناقصون كلما ازددت ارتفاعا ، إذا ما رأيتم شخصاً متداعياً على وشك السقوط ، فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه ، كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران ، علموه على الأقل الإسراع في السقوط ، أنني أحب الشجعان ، فلا تتخذوا لكم أعداء إلا من يستحق البغضاء ، و تجاوزوا عن عداء من لا يستحق سوى الاحتقار .
نشيد البداية و النهاية :
أنني لم أجد حتى اليوم امرأة أتمناها أماً لأبنائي ، لم أجد المرأة التي أحبها ، لأني أحبك أيتها الأبدية .
الرحمة خطيئة و المجتمع بؤرة نفاق :
توالت السنون على " زرادشت " و هو لا يشعر بها مع إنها جللت بالبياض ناصيته ، و في أحد الأيام وقف إلى جانبه العراف قائلاً : إن الأمواج تدور بجبلك من كل جانب ، و عما قليل ستبلغ هذه الأمواج / أمواج الشقاء و الألم / الذرى فتذهب بسفينتك ، أفلا تسمع شيئاً ، فرد عليه " زرادشت " قائلاً : أجل يا نذير الشؤم أسمع استنجاداً يصرخ به إنسان ، و لكن ما لي و إغاثة الناس ، ما هي آخر خطيئة قدرت علي ؟؟. قال العراف : إنها الرحمة .. و قد جئت لأسقطك في هذه الخطيئة ..أتسمع إنه الإنسان الراقي يناديك مستنجداً.و انطلق " زرادشت باتجاه الصوت المستنجد ، و رأى ملكين متوجين يقودان حماراً واحداً ، فتوقف الملكان و قال أحدهما : إن الابتعاد عن المجتمع مفسد للأخلاق المهذبة ، لقد أصبحنا كاذبين أف للحياة بين الشعوب .. أية أهمية بقيت للملوك ؟. قال العراف: خير للإنسان أن يكون مجنوناً في عين نفسه ، من أن يكون حكيماً في أعين الناس ، أعطني المحبة .. أعطني إياها ، أنا المتفرد في الصقيع ، المشوق حتى إلى أعدائه ، إن دموعي كلها تنهمر شوقاً إليك .. عد إلي ًيا الهي المجهول .. يا آلمي يا منتهى سعادتي .. أنهال عليه " زرادشت ضرباً و هو يقول : لا ريب أنك خدعت من قبلي من هم أقوى فراسة مني ، لقد بلغت من السحر ما تستهوي به الناس ، و لكنك لا تجد من الكذب و الرياء ما تستهوي به نفسك .
البابا و زرادشت
لا يكاد الحكيم يفارق العراف حتى يلتقي بواحد من طغمة الكهنة ، يبحث عن ناسك صالح هو أخر الأتقياء ، و لكن القديس كان قد مات ، و الإله الذي كان يتعبد له قد مات هو الآخر ، فيكشف الرجل شخصيته و إذا هو آخر البابوات ، و يقول لزرادشت : ها أنذا اعتزل الآن و لا سيد لي ، و لكني لم أنل حريتي ، فيرد عليه زرادشت قائلاً: أنا زرادشت الجاحد ، فيرد البابا ، آلا ترى أني أشد جحوداً منك . فكر لحظة زرادشت ثم قال : هل خدمته إلى آخر حياته ؟، أصحيح ما يقال من أن الرحمة قبضت على عنقه فأردته مخنوقاً ، حين رأى الإنسان معلقاً على الصليب ، فقال البابا : لقد كان إلها خفياً مليئاً بالأسرار ، من يسبح إلهاً و يعتبره رباً للمحبة فقد قصرت مداركه عن بلوغ مرتبة الحب السامية ، لقد كان هذا الإله في شبابه قاسياً ، فأوجد جحيماً لتسلية صحبه ، و لكنه شاخ مع الأيام فأصبح رحيماً ، و أحس بتعبه من إرادته ، و من العالم ، فما عتم حتى قضى مختنقاً برحمته ، فقال زرادشت :أيا كان سبب موته ، فإن شر ما أذكره به هو إنه كان يشوش على بصري و سمعي ، و كان الأجدر به أن يأتي ببيان صريح لا يحتمل تأويلاً ، و إذا كانت آذاننا هي التي أساءت سماع أقواله ، فمن يا ترى وضع الطين فيها ، فعلام ينتقم من مخلوقاته التي أبدعها ، إذا كانت قد خرجت مشوهة من بين يديه ، عندها صاح البابا : ما الذي أسمعه منك يا "زرادشت " ، الحق أنك بلغت من التقوى ما لا تدرك مداه ، فلا بد أن تكون التقيت بأحد الآلهة وقد هداك إلى كفرك ، لأن إيمانك نفسه قد صدك عن الاعتقاد بالآلهة ، و لسوف يقودك إخلاصك أخيراً إلى ما وراء الخير و الشر ، إنك تحاول الظهور أمامي كأشد الناس كفراً، و لكنني أشتم منك عطر البركة المستمرة ، فأشعر بلذة يخامرها الألم .
بعض من أقواله:
-: إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير ، و إنما أكدوا له إنه أحسن بعمله إليكم ، و الأجدر بكم آلا تحتقروا أحداً ، لئن ينتقم الإنسان قليلاً فذلك أدنى إلى المعروف ، و ليس من الإنسانية أن يترفع المظلوم عن الانتقام .
-: رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم ، ترتد عنها النفس غير راضية ، و لاح لي الخير و الشر و الأفراح و الأحزان ، و ذاتي و ذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع .
-: إن زرادشت يشفق على أصحاب العقائد و رجال الدين ، فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان و لا يضجر لأنهم سلكوا مسلك العقوق نحو جسدهم ، بل هو يرجوا لهم الشفاء ، أنهم يكرهون إلى حد الهوس كل طالب للمعرفة ، و يكرهون أبسط الفضائل و هي فضيلة الإخلاص .
-:إن الطفل يحق له أن يقول : أنا جسد و روح ، و أما الإنسان المدرك لذاته فيقول : أني جسد لا غير ، و ما الروح إلا تسمية لجزء من هذا الجسد.
-: كل ما في المرأة لغز ، و ليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد هو " الحمل " ليس الرجل بالنسبة للمرأة إلا وسيلة غايتها الولد ، أما الرجل الحقيقي فأنه يطلب أمرين ، المرأة و اللعب ، و ذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة ، فهي أخطر الألعاب ، لقد خلق الرجل للحرب ، و خلقت المرأة ليسكن إليها الرجل ، و لا يحب المحارب الثمرة إذا ازدادت حلاوتها ، فهو لذلك يتوق إلى المرأة ، لأنه يستطعم المرارة في أشد النساء حلاوة ، و ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي عليها الحب ، فهي تضحي بكل شيء في سبيل حبها ، إذ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها إزاء قيمة الحب ، و ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء ، لأنه إذا كان قلب الرجل مكمناً للقسوة ، فقلب المرأة مكمن للشر ، و العشق جنون ، و الزواج هو الحماقة الكبرى .
كان الإيمان لدى الغربيين يعتبر الجسد آلة شهوة يجب إذلالها ، و لكن نيتشه تمرد على هذا الوضع ، و شطر الكيان الإنساني إلى ذات و شخصية تتألف من عقل و إدراك زائلين ، و قد قال : إن الجسم و ما فيه من حوافز مجردة خفية إنما هو نفسه الذات التي تندفع إلى التكامل لتبلغ مرتبة الإنسان المتفوق و من بعد ذلك إلى مرتبة الإبداع ..
غالب المير غالب